فصل: تفسير الآية رقم (161)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ خَطَأِ فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَخِلَافِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَعِصْيَانِهِمْ نَبِيَّهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَبْدِيلَهُمُ الْقَوْلَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوهُ حِينَ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏"‏، وَهِيَ قَرْيَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ‏"‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ ثِمَارِهَا وَحُبُوبِهَا وَنَبَاتِهَا ‏"‏ ‏{‏حَيْثُ شِئْتُمْ‏}‏ ‏"‏، مِنْهَا، يَقُولُ‏:‏ أَنَّى شِئْتُمْ مِنْهَا ‏"‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَقُولُوا‏:‏ هَذِهِ الْفِعْلَةُ ‏"‏حِطَّةٌ‏"‏، تَحُطُّ ذُنُوبَنَا ‏"‏ ‏{‏نَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ‏"‏، يَتَغَمَّدُ لَكُمْ رَبُّكُمْ ‏"‏ذُنُوبَكُمْ‏"‏، الَّتِي سَلَفَتْ مِنْكُمْ، فَيَعْفُو لَكُمْ عَنْهَا، فَلَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهَا‏.‏ ‏"‏سَنَـزِيدُ الْمُحْسِنِينَ‏"‏، مِنْكُمْ، وَهُمُ الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ، عَلَى مَا وَعَدْتُكُمْ مِنْ غُفْرَانِ الْخَطَايَا‏.‏

وَقَدْ ذَكَّرَنَا الرِّوَايَاتِ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ لَدَيْنَا فِيهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَغَيَّرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمُ للَّهُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ، فَقَالُوا وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ قُولُوا‏:‏ هَذِهِ حِطَّةٌ‏:‏ ‏"‏حِنْطَةٌ فِي شَعِيْرَةٍ‏"‏‏.‏ وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، هُوَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قُولُوهُ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏"‏، بَعَثَنَا عَلَيْهِمْ عَذَابًا، أَهْلَكْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يُغَيِّرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَيَفْعَلُونَ خِلَافَ مَا أَمَرَهُمُ للَّهُ بِفِعْلِهِ، وَيَقُولُونَ غَيْرَ الَّذِي أَمَرَهُمُ للَّهُ بِفِعْلِهِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الرِّجْزِ فِيمَا مَضَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاسْأَلْ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، وَهُمْ مُجَاوَرُوكَ، عَنْ أَمْرِ ‏"‏ ‏{‏الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ كَانَتْ بِحَضْرَةِ الْبَحْرِ، أَيْ بِقُرْبِ الْبَحْرِ وَعَلَى شَاطِئِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ ‏"‏أَيْلَةُ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا ‏"‏ أَيْلَةُ ‏"‏، بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْنَا أَنَّهَا أَيْلَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي سَلَامُ بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلِيمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ‏:‏ مَا يُبْكِيكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَيْلُكَ، وَتَعْرِفُ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ تِلْكَ أَيْلَةُ ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ أَيْلَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا‏:‏ ‏"‏ أَيْلَةُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ، الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَيْلَةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ سَاحِلُ مَدِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا كَانَتْ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ مَقْنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا ‏"‏ مَقْنَا ‏"‏، بَيْنَ مَدِينَ وعَيْنُونِي‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ مَدِينُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ هِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ أَيْلَةُ وَالطُّورِ، يُقَالُ لَهَا ‏"‏ مَدْيَنُ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هِيَ قَرْيَةٌ حَاضِرَةُ الْبَحْرِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ أَيْلَةَ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَدِينَ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَقْنَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاضِرَةُ الْبَحْرِ، وَلَا خَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ بِأَيِ ذَلِكَ مِنْ أَيٍّ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْتُ‏.‏ وَلَا يُوصِلُ إِلَى عِلْمِ مَا قَدْ كَانَ فَمَضَى مِمَّا لَمَّ نُعَايِنُهُ، إِلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ‏.‏ وَلَا خَبَرَ كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي بِهِ أَهْلَهُ، إِذْ يَعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ أَمْرَ اللَّهِ، وَيَتَجَاوَزُونَهُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏عَدَا فُلَانٌ أَمْرِي‏"‏ و‏"‏اعْتَدَى‏"‏، إِذَا تَجَاوَزَهُ‏.‏

وَكَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ فِي السَّبْتِ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ لسَّبْتَ، فَكَانُوا يَصْطَادُونَ فِيهِ السَّمَكَ‏.‏

‏"‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمُ لَّذِي نُهُوا فِيهِ الْعَمَلَ ‏"‏شُرَّعًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ شَارِعَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْمَاءِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَنَاحِيَةٍ، كَشَوَارِعَ الطُّرُقِ، كَالَّذِي‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْمَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏شَرْعًا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَيَوْمَ لَا يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَهُمُ لسَّبْتَ، وَذَلِكَ سَائِرُ الْأَيَّامِ غَيْرَ يَوْمِ السَّبْتِ ‏"‏ ‏{‏لَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ ‏"‏، الْحِيتَانُ ‏"‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ كَمَا وَصَفْنَا لَكُمْ مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ الَّذِي ذَكَرْنَا، بِإِظْهَارِ السَّمَكِ لَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ فِي الْيَوْمِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ صَيْدُهُ، وَإِخْفَائِهِ عَنْهُمْ فِي الْيَوْمِ الْمُحَلِّلِ صَيْدُهُ ‏"‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَنَخْتَبِرُهُمْ ‏"‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ بِفِسْقِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْهَا‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

فَقُرِئَ بِفَتْحِ ‏"‏الْيَاءِ‏"‏ مِنْ ‏(‏يَسْبِتُونَ‏)‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏سَبَتَ فُلَانٌ يَسْبُتُ سَبْتًا وَسُبُوتًا‏"‏، إِذَا عَظَّمَ ‏"‏السَّبْتَ‏"‏‏.‏

وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ‏}‏ بِضَمِّ الْيَاءِ‏.‏ مِنْ ‏"‏أَسَبَتَ الْقَوْمَ يَسْبِتُونَ‏"‏، إِذَا دَخَلُوا فِي ‏"‏السَّبْتِ‏"‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏أَجْمَعْنَا‏"‏، مَرَّتْ بِنَا جُمْعَةٌ، و‏"‏أَشْهَرْنَا‏"‏ مَرَّ بِنَا شَهْرٌ، و‏"‏أَسَبَتْنَا‏"‏، مَرَّ بِنَا سَبْتٌ‏.‏

وَنَصْبُ ‏"‏يَوْمٍ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ‏}‏ ‏"‏، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَا تَأْتِيهِمْ‏"‏، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ لَا تَأْتِيهِمْ يَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا، يَا مُحَمَّدُ ‏"‏إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ‏"‏، جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِجَمَاعَةٍ كَانَتْ تَعِظُ الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيهِ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، فِي الدُّنْيَا بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ ‏"‏ ‏{‏أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مُجِيبِيهِمْ عَنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ عِظَتُنَا إِيَّاهُمْ مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، نُؤَدِّي فَرْضَهُ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ‏"‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ فَيَخَافُوهُ، فَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَتُوبُوا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَتَعَدِّيهِمْ عَلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، لِسُخْطِنَا أَعْمَالَهُمْ‏.‏

‏"‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏"‏،‏:‏ أَيْ يَنـْزِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ يَتْرُكُونَ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قَالُوا مَعْذِرَةً‏}‏ ‏"‏‏.‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏(‏مَعْذِرَةٌ‏)‏ بِالرَّفْعِ، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ مَعْنَاهَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏مَعْذِرَةً‏)‏ نَصْبًا، بِمَعْنَى‏:‏ إِعْذَارًا وَعَظْنَاهُمْ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي قَالَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّاجِيَةِ، أَمْ مِنَ الْهَالِكَةِ‏!‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ مِنَ النَّاجِيَةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ هِيَ النَّاهِيَةُ الْفِرْقَةَ الْهَالِكَةَ عَنِ الِاعْتِدَاءِ فِي السَّبْتِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا‏:‏ ‏"‏ أَيْلَةُ ‏"‏، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ‏.‏ فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا‏.‏ فَمَكَثُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ، وَقَالُوا‏:‏ تَأْخُذُونَهَا، وَقَدْ حَرَمَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ سَبْتِكُمْ‏!‏ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا وَعُتُوًّا، وَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى تَنْهَاهُمْ‏.‏ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّهَاةِ‏:‏ تَعْلَمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوَّمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا لِلَّهِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَقَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يُنْهُونَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ، نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَالَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ، فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ ‏"‏، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قَرْيَةٍ كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ، كَانَتْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ إِذَا كَانُوا يَوْمَ يَسْبِتُونَ تَأْتِيهِمْ شُرَّعًا يَعْنِي‏:‏ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ لَوْ أَنَا أَخْذُنَا مِنْ هَذِهِ الْحِيتَانِ يَوْمَ تَجِيءُ مَا يَكْفِينَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَيَّامِ‏!‏ فَوَعَظَهُمْ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ وَنَهَوْهُمْ‏.‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوَّمٌ قَدْ هَمُّوا بِأَمْرٍ لَيْسُوا بِمُنْتَهِينَ دُونَهُ، وَاللَّهُ مُخْزِيهِمْ وَمُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏.‏ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، إِنْ كَانَ هَلَاكٌ، فَلَعَلَّنَا نَنْجُو، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَهُوا فَيَكُونُ لَنَا أَجْرًا‏.‏ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ جَعَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمًا يَعْبُدُونَهُ وَيَتَفَرَّغُونَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ‏.‏ فَتَعَدَّى الْخُبَثَاءُ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى السَّبْتِ، وَقَالُوا‏:‏ هُوَ يَوْمُ السَّبْتِ‏!‏ فَنَهَاهُمْ مُوسَى، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَجَعَلَ عَلَيْهِمُ السَّبْتَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ وَأَنْ يَعْتَدُوا فِيهِ، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ ذَهَبَ لِيَحْتَطِبَ، فَأَخَذَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهُ‏:‏ هَلْ أَمَرَكَ بِهَذَا أَحَدٌ‏؟‏ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَمَرَهُ، فَرَجَمَهُ أَصْحَابُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِمَ تَعِظُونَهُمْ، وَقَدْ وَعَظْتُمُوهُمْ فَلَمْ يُطِيعُوكُمْ‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مَا أَدْرِي أَنَجَا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏ أَمْ لَا‏!‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَرَّفْتُهُ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فَكَسَانِي حُلَّةً‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ فَمَا زِلْتُ أُبَصِّرُهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا‏.‏

حَدَّثَنِي سَلَامُ بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلِيمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ دَخَلَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ‏:‏ مَا يُبْكِيكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَقَرَأَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏‏)‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَا أَسْمَعُ الْفِرْقَةَ الثَّالِثَةَ ذُكِرَتْ، نَخَافُ أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُمْ‏!‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ ‏"‏‏؟‏ فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَكَسَانِي حُلَّةً‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمًا وَهُوَ يَبْكِي، وَإِذَا الْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ، فَأَعْظَمَتُ أَنْ أَدْنُوَ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَقَدَّمَتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْوَرَقَاتِ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَإِذَا هُوَ فِي ‏"‏سُورَةِ الْأَعْرَافِ‏"‏، قَالَ‏:‏ تَعْرِفُ أَيْلَةَ ‏!‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهُ كَانَ حَيٌّ مِنْ يَهُودَ، سِيقَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ غَاصَتْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَغُوصُوا، بَعْدَ كَدٍّ وَمُؤْنَةٍ شَدِيدَةٍ، كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بِيضًا سِمَانًا كَأَنَّهَا الْمَاخِضُ، تَنْبَطِحُ ظُهُورُهَا لِبُطُونِهَا بِأَفْنِيَتِهِمْ وَأَبْنِيَتِهِمْ‏.‏ فَكَانُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ إِنِ الشَّيْطَانَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَخُذُوهَا فِيهِ، وَكُلُوهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ‏!‏ فَقَالَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ‏:‏ بَلْ نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا وَأَخْذِهَا وَصَيْدِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ‏.‏ وَكَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى جَاءَتِ الْجُمْعَةُ الْمُقْبِلَةُ، فَعَدَتْ طَائِفَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَأَبْنَائِهَا وَنِسَائِهَا، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةُ ذَاتِ الْيَمِينِ، وَتَنَحَّتْ، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةُ ذَاتِ الْيَسَارِ وَسَكَتَتْ‏.‏ وَقَالَ الأَيْمَنُونَ‏:‏ وَيَلَكُمُ‏!‏ اللَّهَ، اللَّهَ، نَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ‏!‏ وَقَالَ الأَيْسَرُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏‏؟‏ قَالَ الأَيْمَنُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏‏!‏ أَيْ‏:‏ يَنْتَهُونَ، فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ لَا يُصَابُوا وَلَا يَهْلَكُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَمَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ‏.‏ فَمَضَوْا عَلَى الْخَطِيئَةِ، فَقَالَ الأَيْمَنُونَ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُمْ، يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ‏!‏ وَاللَّهِ لَا نُبَايِتُكُمُ للَّيْلَةَ فِي مَدِينَتِكُمْ، وَاللَّهِ مَا نَرَاكُمْ تُصْبِحُونَ حَتَّى يُصِيبَكُمُ للَّهُ بِخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ مَا عِنْدَهُ بِالْعَذَابِ‏!‏ فَلَمَّا أَصْبَحُوا ضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ وَنَادَوْا، فَلَمْ يُجَابُوا، فَوَضَعُوا سُلَّمًا، وَأَعْلَوْا سُورَ الْمَدِينَةِ رَجُلًا فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، قِرْدَةٌ وَاللَّهِ تَعَاوَى لَهَا أَذْنَابٌ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَفَتَحُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقِرْدَةُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا تَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْقِرَدَةِ، فَجَعَلَتِ الْقُرُودُ تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الْإِنْسِ فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَتَقُولُ لَهُمْ‏:‏ أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ كَذَا‏؟‏ فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا‏:‏ نَعَمَ‏!‏ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَرَى الْيَهُودَ الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا، وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا فَلَا نَقُولُ فِيهَا‏!‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ إِنْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَخَالَفُوهُمْ وَقَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ‏}‏ ‏"‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَأَمَرَ بِي فَكُسِيتُ بُرْدَيْنِ غَلِيظَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، ذُكِّرَ لَنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَقْبَلَتِ الْحِيتَانُ، حَتَّى تَتَبَطَّحَ عَلَى سَوَاحِلِهِمْ وَأَفْنَيْتِهِمْ، لِمَا بَلَغَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ يَوْمِ السَّبْتِ، بَعُدَتْ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَطْلُبَهَا طَالَبَهُمْ‏.‏ فَأَتَاهُمُ لشَّيْطَانُ فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَاصْطَادُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَكُلُوهَا فِيمَا بَعْدُ‏!‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، صَارَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ، أَمَّا صِنْفٌ فَأَمْسَكُوا عَنْ حُرْمَةِ اللَّهِ وَنَهَوْا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا صِنْفٌ فَأَمْسِكُ عَنْ حُرْمَةِ اللَّهِ هَيْبَةً لِلَّهِ، وَأَمَّا صِنْفٌ فَانْتَهَكَ الْحُرْمَةَ وَوَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ حَرُمَتْ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا، بَلَاءً ابْتُلُوا بِهِ، وَلَا تَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَطْلُبُوهَا، بَلَاءً أَيْضًا، بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏.‏ فَأَخَذُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ اسْتِحْلَالًا وَمَعْصِيَةً، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏"‏، إِلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَدُوا وَنَهَوْهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏ حَتَّى بَلَغَ ‏"‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، لَعَلَّهُمْ يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا قَدْ بُلُّوا بِكَفِّ الْحِيتَانِ عَنْهُمْ، وَكَانُوا يَسْبِتُونَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَلَا يَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ أَتَتْهُمُ الْحِيتَانُ شُرَّعًا، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ يَوْمِ السَّبْتِ لَمْ يَأْتِ حُوتٌ وَاحِدٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانُوا قَوْمًا قَدْ قَرِموا بِحُبِّ الْحِيتَانِ وَلَقُوا مِنْهُ بَلَاءً، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حُوتًا فَرَبَطَ فِي ذَنْبِهِ خَيْطًا، ثُمَّ رَبَطَهُ إِلَى خَشَفَةٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ فِي الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ، اجْتَرَّهُ بِالْخَيْطِ ثُمَّ شَوَاهُ‏.‏ فَوَجَدَ جَارٌ لَهُ رِيحَ حُوتٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا فُلَانُ، إِنِّي أُجِدُّ فِي بَيْتِكَ رِيحَ نُونٍ‏!‏ فَقَالَ‏:‏ لَا‏!‏ قَالَ‏:‏ فَتَطَّلِعُ فِي تَنُّورِهِ فَإِذَا هُوَ فِيهِ، فَأَخْبَرَهُ حِينَئِذٍ الْخَبَرَ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي أَرَى اللَّهَ سَيُعَذِّبُكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا لَمَّ يَرَهُ عَجَّلَ عَذَابًا، فَلِمَا أَتَى السَّبْتُ الْآخَرُ أَخَذَ اثْنَيْنِ فَرَبَطَهُمَا، ثُمَّ اطَّلَعَ جَارٌ لَهُ عَلَيْهِ، فَلِمَا رَآهُ لَمْ يُعَجِّلْ عَذَابًا، جَعَلُوا يَصِيدُونَهُ، فَاطَّلَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمُ لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَكَانُوا فِرْقَتَيْنِ‏:‏ فِرْقَةٌ تَنْهَاهُمْ وَتَكُفُّ، وَفِرْقَةٌ تَنْهَاهُمْ وَلَا تَكُفُّ‏.‏ فَقَالَ الَّذِينَ نَهَوْا وَكَفُّوا، لِلَّذِينِ يَنْهُونَ وَلَا يَكُفُّونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏‏؟‏ فَقَالَ الْآخَرُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ قَالَ اللَّهُ ‏(‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ

‏)‏‏.‏ وَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ‏:‏ عَمِلْتُمْ بِعَمَلٍ سَوْءٍ، مَنْ كَانَ يُرِيدُ يَعْتَزِلُ وَيَتَطَهَّرُ فَلْيَعْتَزِلْ هَؤُلَاءِ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَاعْتَزَلَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي مَدِينَتِهِمْ، وَضَرَبُوا بَيْنَهُمْ سُورًا، فَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ السُّورِ أَبْوَابًا يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ طَرَقَهُمُ للَّهُ بِعَذَابٍ، فَأَصْبَحَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَرَوْنَ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، الرَّجُلُ وَأَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ، فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّجُلِ يَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ‏:‏ يَا فُلَانُ، أَلَمْ نُحَذِّرْكَ سَطَوَاتِ اللَّهِ‏؟‏ أَلَمْ نُحَذِّرْكَ نَقَمَاتِ اللَّهِ‏؟‏ وَنُحَذِّرُكَ وَنُحَذِّرُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَلَيْسَ إِلَّا بُكَاءً‏!‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا عَذَّبَ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا الَّذِينَ نَهَوْا، فَكُلُّهُمْ قَدْ نَهَى، وَلَكِنَّ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ‏.‏ فَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ لَا أَدْرِي أَنَجَا الْقَوْمُ أَوْ هَلَكُوا‏؟‏ فَمَا زِلْتُ أُبَصِّرُهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ نَجَوْا، وَكَسَانِي حُلَّةً‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ ذَهَبَتْ، فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى السَّبْتِ‏.‏ فَاتَّخِذَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ خَيْطًا وَوَتَدًا، فَرَبَطَ حُوتًا مِنْهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ، حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا لَيْلَةَ الْأَحَدِ أَخْذَهُ فَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَهُ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَجَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ‏:‏ فَإِنَّهُ جِلْدُ حُوتٍ وَجَدْنَاهُ‏!‏ فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ الْآخَرُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ‏:‏ رَبَطَ حُوتَيْنِ فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الْأَحَدِ أَخْذَهُ فَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدُوا رِيحَهُ، فَجَاءُوا فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ لَوْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ‏!‏ فَقَالُوا لَهُ‏:‏ وَمَا صَنَعَتْ‏؟‏ فَأَخْبَرَهُمْ، فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ‏.‏ وَكَانَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ لَهَا رَبَضَ، فَغَلَّقُوهَا، فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْمَسْخِ مَا أَصَابَهُمْ‏.‏ فَغَدًا إِلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَكُونُ حَوْلَهُمْ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ، فَوَجَدُوا الْمَدِينَةَ مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ، فَنَادَوْا فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، فَجُعِلَ الْقِرْدُ يَدْنُو يَتَمَسَّحُ بِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَدْنُو مِنْهُ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ الْفِرْقَةُ الَّتِي قَالَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، كَانَتْ مِنَ الْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏شُرَّعًا‏"‏، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ابْتَدَعُوا السَّبْتَ فَابْتُلُوا فِيهِ، فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحِيتَانُ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ‏.‏ فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ، ذَهَبَتْ فَلَمْ تُرَ حَتَّى السَّبْتِ الْمُقْبِلِ، فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ جَاءَتْ شُرَّعًا‏.‏ فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ حُوتًا فَخَزَمَهُ بِأَنْفِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ وَتِدًا فِي السَّاحِلِ، وَرَبَطَهُ وَتَرَكَهُ فِي الْمَاءِ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، أَخَذَهُ فَشَوَاهُ فَأَكَلَهُ‏.‏ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ، وَلَا يَنْهَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا عُصْبَةٌ مِنْهُمْ نَهَوْهُ، حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ وَفُعِلَ عَلَانِيَةً‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِلَّذِينِ يَنْهَوْنَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ ‏"‏، فِي سُخْطِنَا أَعْمَالَهُمْ، ‏"‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ ‏"‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانُوا أَثْلَاثًا‏:‏ ثُلْثٌ نَهَوْا، وَثُلْثٌ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، وَثُلْثٌ أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ‏.‏ فَأَصْبَحَ الَّذِينَ نَهَوْا عَنِ السُّوءِ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَفَقَّدُونَ النَّاسَ لَا يَرَوْنَهُمْ، فَعَلَوْا عَلَى دَوْرِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَانْظُرُوا مَا شَأْنَهُمْ‏!‏ فَاطَّلَعُوا فِي دُوْرِهِمْ، فَإِذَا الْقَوْمُ قَدْ مُسِخُوا فِي دِيَارِهِمْ قِرَدَةً، يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لِقِرْدٌ، وَيَعْرِفُونَ الْمَرْأَةَ بِعَيْنِهَا وَإِنَّهَا لِقِرْدَةٌ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 66‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ نَجَا النَّاهُونَ، وَهَلَكَ الْفَاعِلُونَ، وَلَا أَدْرِي مَا صَنَعَ بِالسَّاكِتِينَ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ‏:‏ الْفِرْقَةُ الَّتِي وَعَظَتْ، وَالْمَوْعُوظَةُ الَّتِي وُعِظَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا فَعَلَتِ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُمُ لَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ‏:‏ هُمَا فِرْقَتَانِ‏:‏ الْفِرْقَةُ الَّتِي وَعَظَتْ، وَالَّتِي قَالَتْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الْمَوْعُوظَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لِأَنْ أَكُونُ عَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏"‏، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَسْمَعُ، اللَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏"‏، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏"‏‏؟‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ مَاهَّانَ الْحَنَفِيِّ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَكَانَتِ الْأَيَّامُ سِتَّةً، الْأَحَدُ إِلَى الْجُمْعَةِ‏.‏ فَوَضَعَتِ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَسَبَّتُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَسَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبْتُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَكَّدَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَابْتَلَاهُمْ فِيهِ بِالْحِيتَانِ، فَجَعَلَتْ تُشَرِّعُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَيَتَّقُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهَا، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ‏:‏ وَاللَّهِ مَا السَّبْتُ بِيَوْمٍ وَكَّدَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ وكَّدْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَلَوْ تَنَاوَلَتُ مِنْ هَذَا السَّمَكِ‏!‏ فَتَنَاوَلَ حُوتًا مِنَ الْحِيتَانِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ جَارُهُ، فَخَافَ الْعُقُوبَةَ، فَهَرَبَ مِنْ مَنـْزِلِهِ‏.‏ فَلَمَّا مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ تُصِبْهُ عُقُوبَةٌ، تَنَاوَلَ غَيْرُهُ أَيْضًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ‏.‏ فَلَمَّا لَمْ تُصِبْهُمُ الْعُقُوبَةُ، كَثُرَ مَنْ تَنَاوَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَاتَّخَذُوا يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَيْلَةَ السَّبْتِ عِيدًا يَشْرَبُونَ فِيهِ الْخُمُورَ، وَيَلْعَبُونَ فِيهِ بِالْمَعَازِفِ‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ خِيَارُهُمْ وَصُلَحَاؤُهُمْ‏:‏ وَيَحَكُمُ، انْتَهَوْا عَمَّا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ أَوْ مُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏؟‏ وَلَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ‏!‏ فَأَبَوْا، فَقَالَ خِيَارُهُمْ‏:‏ نَضْرِبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَائِطًا‏.‏ فَفَعَلُوا، وَكَانَ إِذَا كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ تَأَذَّوْا بِمَا يَسْمَعُونَ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِ الْمَعَازِفِ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي مُسِخُوا فِيهَا، سَكَنَتْ أَصْوَاتُهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَقَالَ خِيَارُهُمْ‏:‏ مَا شَأْنُ قَوْمِكُمْ قَدْ سَكَنَتْ أَصْوَاتُهُمُ للَّيْلَةَ‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَعَلَّ الْخَمْرَ غَلَبَتْهُمْ فَنَامُوا‏!‏ فَلَمَّا أَصْبَحُوا، لَمْ يَسْمَعُوا لَهُمْ حِسًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ مَا لَنَا لَا نَسْمَعُ مِنْ قَوْمِكُمْ حِسًّا‏؟‏ فَقَالُوا لِرَجُلٍ‏:‏ اصْعَدِ الْحَائِطَ وَانْظُرْ مَا شَأْنُهُمْ‏.‏ فَصَعِدَ الْحَائِطَ، فَرَآهُمْ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، قَدْ مُسِخُوا قِرْدَةً، فَقَالَ لِقَوْمِهِ‏:‏ تَعَالَوْا فَانْظُرُوا إِلَى قَوْمِكُمْ مَا لَقُوا‏!‏ فَصَعِدُوا، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الرَّجُلِ فَيَتَوَسَّمُونَ فِيهِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَيْ فُلَانُ، أَنْتَ فُلَانٌ‏؟‏ فَيُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ أَنْ نَعَمْ، بِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ، تَلَا الْحَسَنُ ذَاتَ يَوْمٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏"‏، فَقَالَ‏:‏ حُوتٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمٍ، وَأَحَلَّهُ لَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَكَانَ يَأْتِيهِمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُ الْمَخَاضُ‏.‏ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ أَحَدٍ‏.‏ وَقَلَّمَا رَأَيْتَ أَحَدًا يُكْثِرُ الِاهْتِمَامَ بِالذَّنْبِ إِلَّا وَاقَعَهُ، فَجَعَلُوا يَهْتَمُّونَ وَيُمْسِكُونَ، حَتَّى أَخَذُوهُ، فَأَكَلُوا أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا قَوْمٌ قَطُّ، أَبْقَاهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَأَشَدُّهُ عُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ‏!‏ وَايْمُ اللَّهِ، ‏[‏مَا حُوتٌ أَخْذَهُ قَوْمٌ فَأَكَلُوهُ، أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ‏]‏‏!‏ وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حُوتٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مَوْعِدَ قَوْمِ السَّاعَةِ ‏{‏وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْقَمَرِ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ جَاءَتْهُمُ الْحِيتَانُ تَشْرَعُ فِي حِيَاضِهِمْ كَأَنَّهَا الْمَخَاضُ، فَأَكَلُوا وَاللَّهِ أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا قَوْمٌ قَطُّ، أَسْوَأَهُ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَشَدُّهُ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ‏!‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ وَاللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الْحِيتَانِ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ وَجَلَسَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا‏:‏ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ ‏"‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ لِمَا حَرُمَ عَلَيْهِمُ لسَّبْتُ، كَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ، وَتَأْمَنُ فَتَجِيءُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمَسُّوهَا‏.‏ وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبَتْ، فَكَانُوا يَتَصَيَّدُونَ كَمَا يَتَصَيَّدُ النَّاسُ‏.‏ فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَعْدُوا فِي السَّبْتِ، اصْطَادُوا، فَنَهَاهُمْ قَوْمٌ مِنْ صَالِحِيهِمْ، فَأَبَوْا، وَكَثَرَهُمُ الْفُجَّارُ، فَأَرَادَ الْفُجَّارُ قِتَالَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَشْتَهُونَ قِتَالَهُ، أَبُو أَحَدِهِمْ وَأَخُوهُ أَوْ قَرِيبُهُ‏.‏ فَلَمَّا نَهَوْهُمْ وَأَبَوْا، قَالَ الصَّالِحُونَ‏:‏ إذًا نُتَّهَمُ‏!‏ وَإِنَّا نَجْعَلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَائِطًا‏!‏ فَفَعَلُوا، فَلَمَّا فَقَدُوا أَصْوَاتَهُمْ قَالُوا‏:‏ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى إِخْوَانِكُمْ مَا فَعَلُوا‏!‏ فَنَظَرُوا، فَإِذَا هُمْ قَدْ مُسِخُوا قِرْدَةً، يَعْرِفُونَ الْكَبِيرَ بِكِبَرِهِ، وَالصَّغِيرَ بِصِغَرِهِ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ إِلَيْهِمْ‏.‏ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا تَرَكَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي اعْتَدَتْ فِي السَّبْتِ مَا أَمَرَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، وَضَيَّعَتْ مَا وَعَظَتْهَا الطَّائِفَةُ الْوَاعِظَةُ وَذَكَّرَتْهَا بِهِ، مِنْ تَحْذِيرِهَا عُقُوبَةَ اللَّهِ عَلَى مَعْصِيَتِهَا، فَتَقَدَّمَتْ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْجَى اللَّهُ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ مِنْهُمْ عَنْ ‏"‏السُّوءِ‏"‏ يَعْنِي عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَاسْتِحْلَالِ حِرْمِهِ ‏"‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَخَذَ اللَّهُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ، فَاسْتَحَلُّوا فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ صَيْدِ السَّمَكِ وَأَكْلِهِ، فَأَحِلَّ بِهِمْ بَأْسَهُ، وَأَهْلَكَهُمْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ هُوَ ‏"‏الْفِسْقُ‏"‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا نَسُوا مَوْعِظَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ، الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا‏}‏ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ قَالَ، أَخْبَرَنِي عِمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ يَا لَيْتَ شِعْرِي، مَا السُّوءُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ‏؟‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏"‏، فَإِنَّ الْقَرَأَةُ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏:‏ ‏(‏بِعَذَابٍ بِيسٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فِعْلٍ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَعِيلَ‏"‏، مِنَ ‏"‏الْبُؤْسِ‏"‏، بِنَصْبِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَمَدِّهَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ، غَيْرَ أَنَّهُ كَسَرَ بَاءَ‏:‏ ‏(‏بِئِيسٍ‏)‏ عَلَى مِثَالِ ‏"‏فِعِيلٍ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏(‏بَيْئِسٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ، وَهَمْزَةٌ بَعْدَهَا مَكْسُورَةٌ، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَيْعِلٍ‏"‏‏.‏

وَذَلِكَ شَاذٌّ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ ‏"‏فَيْعِلَ‏"‏ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، فَالْفَتْحُ فِي عَيْنِهِ الْفَصِيحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي نَظِيرِهِ مِنَ السَّالِمِ‏:‏ ‏"‏صَيْقَلٌ، وَنَيْرَبٌ‏"‏، وَإِنَّمَا تُكْسَرُ الْعَيْنُ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏سَيِّدٌ‏"‏ و‏"‏مَيِّتٌ‏"‏، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكَنَدِيِّ‏:‏

كِلَاهُمَـا كَـانَ رَئيسًـا بَيْئِسَـا *** يَضْـرِبُ فِـي يَـوْمِ الْهِيَـاجِ القَوْنَسَـا

بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَنْ ‏"‏فُيْعِلٍ‏"‏، وَهِيَ الْهَمْزَةُ مِنْ ‏"‏بِيَئِسٍ‏"‏، فَلَعَلَّ الَّذِي قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَرَأَهُ عَلَى هَذِهِ‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ آخَرَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَهُ‏:‏ ‏(‏بَيْئَسٍ‏)‏، نَحْوَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذِهِ، وَذَلِكَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْيَاءِ، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَيْعَلٍ‏"‏ مِثْلَ ‏"‏صَيْقَلٍ‏"‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ قَرَأَهُ‏:‏ ‏(‏بَئِسٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَعِلَ‏"‏، كَمَا قَالَ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ‏:‏

لَيْتَنِـي أَلْقَـي رُقَيَّـةَ فِـي *** خَـلْوَةٍ مِـنْ غَـيْرِ مَـا بَئِـسِ

وَرُوِيَ عَنْ آخَرَ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏بِئْسَ‏)‏ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ، عَلَى مَعْنَى‏:‏ بِئْسَ الْعَذَابُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ ‏(‏بَئِيسٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَمَدِّهَا، عَلَى مِثَالِ ‏"‏فَعِيلٍ‏"‏، كَمَا قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ العَدْوَانِيُّ‏:‏

حَنَقًـا عَـلَيَّ، وَمَـا تَـرَى *** لِـي فِيهِـمُ أَثَـرًا بَئيسَـا

لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ شَدِيدٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةٍ مَا اخْتَرْنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏"‏،‏:‏ أَلِيمٌ وَجِيعٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ شَدِيدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏"‏، أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ مُوجِعٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏"‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏"‏، قَالَ‏:‏ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَلَمَّا تَمَرَّدُوا، فِيمَا نُهُوا عَنْهُ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ صَيْدِ السَّمَكِ وَأَكْلِهِ، وَتَمَادَوْا فِيهِ ‏"‏ ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏"‏، أَيْ‏:‏ بُعَدَاءُ مِنَ الْخَيْرِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِمَا مَرَدَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ‏"‏ ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏"‏، فَصَارُوا قِرْدَةً لَهَا أَذْنَابٌ، تَعَاوَى، بَعْدَمَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏"‏، فَجَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏.‏ فَزَعَمَ أَنَّ شَبَابَ الْقَوْمِ صَارُوا قِرْدَةً، وَأَنَّ الْمَشْيَخَةَ صَارُوا خَنَازِيرَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا يَحْمِلُ قَصَبًا يَوْمَ السَّبْتِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ‏}‏ ‏"‏، وَاذْكُرَ، يَا مُحَمَّدُ، إِذْ آذَنُ رَبُّكَ، وَأَعْلَمُ‏.‏

وَهُوَ ‏"‏تَفَعَّلٌ‏"‏ مِنَ ‏"‏الْإِيذَانِ‏"‏، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى، مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏

أَذِنَ اليَـوْمَ جِـيرَتِي بِخُـفُوفِ *** صَرَمُـوا حَـبْلَ آلِـفٍ مَـأْلُوفِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَذِنَ‏"‏، أَعْلَمَ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَمَرَ رَبُّكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَمَرَ رَبُّكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَعْلَمُ رَبُّكَ لِيَبْعَثْنَ عَلَى الْيَهُودِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏.‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ الْعَرَبُ، بَعَثَهُمُ للَّهُ عَلَى الْيَهُودِ، يُقَاتِلُونَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ، وَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ صِغَارًا وَذِلَّةً‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هِيَ الْجِزْيَةُ، وَالَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ‏:‏ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّتُهُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، فَهِيَ الْمَسْكَنَةُ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَهُودُ، وَمَا ضُرِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ فِي عَذَابٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ بَعَثَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ فِي عَذَابِ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏ وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزْرِيِّ‏:‏ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُبْعَثَ الْأَنْبَاطُ فِي الْجِزْيَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْعَرَبُ ‏"‏ ‏{‏سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْخَرَاجُ‏.‏ وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَرَاجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَبَى الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْعَرَبُ ‏"‏ ‏{‏سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْخَرَاجُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَرَاجَ مُوسَى، فَجَبَى الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ يَجْبُونَهُمُ الْخَرَاجَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ سُوءُ الْعَذَابِ‏.‏ وَلَمْ يَجْبِ نَبِيٌّ الْخَرَاجَ قَطُّ إِلَّا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أَمْسَكَ، وَإِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَبْعَثُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ فِي عَذَابٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

قَالَ أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ‏:‏ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُبْعَثَ الْأَنْبَاطُ فِي الْجِزْيَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِنْ رَبَّكَ يَبْعَثُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَرَبَ، فَيَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏"‏، لِيَبْعَثْنَ عَلَى يَهُودَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ، لَسَرِيعٌ عِقَابَهُ إِلَى مَنِ اسْتَوْجَبَ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ وَمَعْصِيَتِهِ ‏"‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنَّهُ لَذُو صَفْحٍ عَنْ ذُنُوبِ مَنْ تَابَ مِنْ ذُنُوبِهِ، فَأَنَابَ وَرَاجَعَ طَاعَتَهُ، يَسْتُرُ عَلَيْهَا بِعَفْوِهِ عَنْهَا ‏"‏رَحِيمٌ‏"‏، لَهُ، أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى جُرْمِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيُقِيلُ الْعَثْرَةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَفَرَّقْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ ‏"‏أُمَمًا يَعْنِي‏:‏ جَمَاعَاتٍ شَتَّى مُتَفَرِّقِينَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فِي كُلِّ أَرْضٍ يَدْخُلُهَا قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَهُودُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ للَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏"‏الصَّالِحُونَ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ‏"‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ‏}‏ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ دُونَ الصَّالِحِ‏.‏ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ للَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ قَبْلَ ارْتِدَادِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَقَبْلَ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فِيهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ بِالرَّخَاءِ فِي الْعَيْشِ، وَالْخَفْضِ فِي الدُّنْيَا وَالدَّعَةِ، وَالسِّعَةِ فِي الرِّزْقِ، وَهِيَ ‏"‏الْحَسَنَاتُ‏"‏ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَيَعْنِي بِـ ‏"‏السَّيِّئَاتِ‏"‏، الشِّدَّةُ فِي الْعَيْشِ، وَالشَّظَفُ فِيهِ، وَالْمَصَائِبُ وَالرَّزَايَا فِي الْأَمْوَالِ ‏"‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِيُرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيُنِيبُوا إِلَيْهَا، وَيَتُوبُوا مِنْ مَعَاصِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ ‏"‏خَلْفٌ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ خَلْفَ سُوءٍ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ حَدَثَ بَعْدَهُمْ وَخِلَافَهُمْ، وَتَبَدَّلَ مِنْهُمْ، بَدَلُ سَوْءٍ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏هُوَ خَلَفُ صِدْقٍ‏"‏، ‏"‏وَخَلْفُ سَوْءٍ‏"‏، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْمَدْحِ بِفَتْحِ ‏"‏اللَّامِ‏"‏، وَفِي الذَّمِّ بِتَسْكِينِهَا، وَقَدْ تُحَرَّكُ فِي الذَّمِّ، وَتُسَكَّنُ فِي الْمَدْحِ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي تَسْكِينِهَا فِي الْمَدْحِ قَوْلُ حَسَّانَ‏:‏

لَنَـا القَـدَمُ الأُولَـى إلَيْـكَ، وَخَلْفُنَـا *** لأَوَّلِنَـا فِـي طَاعَـةِ اللَّـهِ تَـابِعُ

وَأَحْسَبُ أَنَّهُ إِذَا وُجِّهَ إِلَى الْفَسَادِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏خَلَفَ اللَّبَنُ‏"‏، إِذَا حَمُضَ مِنْ طُولِ تَرْكِهِ فِي السِّقَاءِ حَتَّى يَفْسَدَ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ الْفَاسِدَ مُشَبَّهٌ بِهِ‏.‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قَوْلُهُمْ ‏"‏خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ‏"‏، إِذَا تَغَيَّرَتْ رِيحُهُ‏.‏ وَأَمَّا فِي تَسْكِينِ ‏"‏اللَّامِ‏"‏ فِي الذَّمِّ، فَقَوْلُ لَبِيَدٍ‏:‏

ذَهَـبَ الَّـذِينَ يُعَـاشُ فِـي أَكْنَـافِهِمْ *** وَبَقِيـتُ فِـي خَـلْفٍ كَجِـلْدِ الْأَجْرَبِ

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْخَلَفَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ خَلَفُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، هُمُ النَّصَارَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ النَّصَارَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّمَا وُصِفَ أَنَّهُ خَلَفَ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَصَّ قِصَصَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي مَضَتْ، خَلْفَ سُوءٍ رَدِيءٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا أَنَّهُمْ نَصَارَى فِي كِتَابِهِ، وَقِصَّتُهُمْ بِقِصَصِ الْيَهُودِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِقِصَصِ النَّصَارَى‏.‏ وَبَعْدُ، فَإِنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا بَعْدَهُ كَذَلِكَ، فَمَا بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمْ أَشْبَهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صَرْفِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا جَاءَ بِذَلِكَ دَلِيلٌ يُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِهِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا‏:‏ فَتَبَدَّلَ مِنْ بَعْدِهِمْ بَدَلَ سُوءٍ، وَرَثَوْا كِتَابَ اللَّهِ فَعُلِّمُوهُ، وَضَيَّعُوا الْعَمَلَ بِهِ، فَخَالَفُوا حُكْمَهُ، يُرْشَونَ فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ فِيهِ مِنْ عَرَضِ هَذَا الْعَاجِلِ ‏"‏الْأَدْنَى‏"‏، يَعْنِي بِـ ‏"‏الأَدْنَى‏"‏‏:‏ الْأَقْرَبُ مِنَ الْآجِلِ الْأَبْعَدِ‏.‏ وَيَقُولُونَ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ سَيَغْفِرُ لَنَا ذُنُوبَنَا، تَمَنِّيًا عَلَى اللَّهِ الْأَبَاطِيلَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 79‏]‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ شَرَعَ لَهُمْ ذَنْبٌ حَرَامٌ مِثْلُهُ مِنَ الرَّشْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَخَذُوهُ وَاسْتَحَلُّوهُ وَلَمْ يَرْتَدِعُوا عَنْهُ‏.‏ يُخْبِرُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَهِلُ إِصْرَارٍ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ إِنَابَةٍ وَلَا تَوْبَةٍ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ عِبَارَاتُهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا فَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَعْمَلُونَ الذَّنْبَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَإِنْ عَرَضَ ذَلِكَ الذَّنْبُ أَخَذُوهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ مِنَ الذُّنُوبِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَعْمَلُونَ بِالذُّنُوبِ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏،‏:‏ قَالَ‏:‏ ذَنَبٌ آخَرُ، يَعْمَلُونَ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ قَالَ‏:‏ مَا أَشْرَفَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي الْيَوْمِ مِنَ الدُّنْيَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ يَشْتَهُونَهُ أَخَذُوهُ، وَيَبْتَغُونَ الْمَغْفِرَةَ، فَإِنْ يَجِدُوا الْغَدَ مَثَلَهُ يَأْخُذُوهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ لَا يُشْرِفُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ، حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، وَإِنْ يَجِدُوا عَرْضًا مِثْلَهُ يَأْخُذُوهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ ‏"‏، إِيْ وَاللَّهِ، لَخَلْفُ سَوْءٍ وَرِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَرُسُلِهِمْ، وَرَّثَهُمُ للَّهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ مَرْيَمَ‏:‏ 59‏]‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، تَمَنَّوْا عَلَى اللَّهِ أَمَانِيَّ، وَغِرَّةً يَغْتَرُّونَ بِهَا‏.‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ‏}‏ ‏"‏، لَا يَشْغَلُهُمْ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، كُلَّمَا أَشْرَفَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا أَكَلُوهُ، لَا يُبَالُونَ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامً‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَأْخُذُونَهُ إِنْ كَانَ حَلَالًا وَإِنْ كَانَ حَرَامًا ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ إِنْ جَاءَهُمْ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَخَذُوهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ خِيَارَهُمُ جْتَمَعُوا، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعُهُودَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا وَلَا يَرْتَشُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا اسْتُقْضِيَ ارْتَشَى، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ مَا شَأْنُكَ تَرْتَشِي فِي الْحُكْمِ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ سَيُغْفَرُ لِي‏!‏ فَيَطْعَنُ عَلَيْهِ الْبَقِيَّةُ الْآخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا صَنَعَ‏.‏ فَإِذَا مَاتَ، أَوْ نـُزِعَ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ، فَيَرْتَشِي‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضُ الدُّنْيَا يَأْخُذُوهُ‏.‏ وَأَمَّا ‏"‏عَرْضُ الْأَدْنَى‏"‏، فَعَرْضُ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ يَأْخُذُونَ مَا أَصَابُوا وَيَتْرُكُونَ مَا شَاءُوا مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبُوهُ ‏"‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ‏"‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، يَأْتِهِمُ لْمُحِقُّ بِرَشْوَةٍ فَيَخْرُجُوا لَهُ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ يَحْكُمُوا لَهُ بِالرَّشْوَةِ‏.‏ وَكَانَ الظَّالِمُ إِذَا جَاءَهُمْ بِرَشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ ‏"‏الْمُثَنَّاةَ‏"‏، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبُوهُ، فَحَكَمُوا لَهُ بِمَا فِي ‏"‏الْمُثَنَّاةِ‏"‏، بِالرَّشْوَةِ، فَهُوَ فِيهَا مُحِقٌّ، وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ ظَالِمٌ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَعْمَلُونَ بِالذُّنُوبِ ‏"‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏أَلَمْ يُؤْخَذْ‏"‏، عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُرْتَشِينَ فِي أَحْكَامِهِمْ، الْقَائِلِينَ‏:‏ ‏"‏سَيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا فِعْلَنَا هَذَا‏"‏، إِذَا عُوتِبُوا عَلَى ذَلِكَ ‏"‏ ‏{‏مِيثَاقُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏"‏، وَهُوَ أَخْذُ اللَّهِ الْعُهُودَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا‏.‏ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مُوَبِّخًا عَلَى خِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ‏:‏ أَلَمْ يَأْخُذِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ كِتَابِهِ، أَلَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا يُضِيفُوا إِلَيْهِ إِلَّا مَا أَنَـزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنْ لَا يَكْذِبُوا عَلَيْهِ‏؟‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فِيمَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ لَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ فِيهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَرِثُوا الْكِتَابَ‏}‏ ‏"‏، وَمَعْنَاهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ‏}‏ ‏"‏، ‏"‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏، قَرَأُوا مَا فِيهِ، يَقُولُ‏:‏ وَرِثُوا الْكِتَابَ فَعَلِمُوا مَا فِيهِ وَدَرَسُوهُ، فَضَيَّعُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَخَالَفُوا عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ عَلَّمُوهُ، عَلَّمُوا مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 79‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا فِي الْمَعَادِ عِنْدَ اللَّهِ، مِمَّا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْعَامِلِينَ بِمَا أَنَـزَلَ فِي كِتَابِهِ، الْمُحَافِظِينَ عَلَى حُدُودِهِ ‏"‏ ‏{‏خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ اللَّهَ‏"‏، وَيَخَافُونَ عِقَابَهُ، فَيُرَاقِبُونَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُطِيعُونَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي دُنْيَاهُمْ ‏"‏ ‏{‏أَفَلَا يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَفَلَا يَعْقِلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى عَلَى أَحْكَامِهِمْ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ‏"‏، أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ الْعَادِلِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَحْكَامِهِمْ، خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْعَرَضِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْجَوْرِ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِيِ قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏يُمْسِكُونَ‏)‏ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَتَسْكِينِهَا، مِنْ ‏"‏أَمْسِكَ يُمْسِكُ‏"‏‏.‏

وَقَرَأَهُ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏يُمَسِّكُونَ‏)‏، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، مَنْ ‏"‏مَسَّكَ يُمَسِّكُ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَيَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ‏"‏ ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ‏}‏ ‏"‏، بِحُدُودِهَا، وَلَمْ يُضَيِّعُوا أَوْقَاتَهَا ‏"‏ ‏{‏إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِي، فَإِنِّي لَا أُضَيِّعُ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ‏"‏، مِنْ يَهَودَ أَوْ نَصَارَى ‏"‏ ‏{‏إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاذْكُرْ، يَا مُحَمَّدُ، إِذِ اقْتَلَعْنَا الْجَبَلَ فَرَفَعْنَاهُ فَوْقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَأَنَّهُ ظُلَّةُ غَمَامٍ مِنَ الظِّلَالِ وَقُلْنَا لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، مِنْ فَرَائِضِنَا، وَأَلْزَمْنَاكُمْ مِنْ أَحْكَامِ كِتَابِنَا، فَاقْبَلُوهُ، اعْمَلُوا بِاجْتِهَادٍ مِنْكُمْ فِي أَدَائِهِ، مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا تَوَانٍ ‏"‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ مَا فِي كِتَابِنَا مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ ‏"‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ كَيْ تَتَّقُوا رَبَّكُمْ، فَتَخَافُوا عِقَابَهُ بِتَرْكِكُمُ لْعَمَلَ بِهِ إِذَا ذَكَرْتُمْ مَا أُخِذَ عَلَيْكُمْ فِيهِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ ‏"‏، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَإِلَّا خَرَّ عَلَيْكُمْ الْجَبَلُ فَأَهْلَكَكُمْ‏!‏ فَقَالُوا‏:‏ بَلْ نَأْخُذُ مَا آتَانَا اللَّهُ بِقُوَّةٍ‏!‏ ثُمَّ نَكَثُوا بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ ‏"‏، فَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 154‏]‏، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، وَإِلَّا أَرْسَلْتُهُ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ إِنِّي لِأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِ شَيْءٍ سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفِ وُجُوهِهِمْ‏:‏ لَمَّا رُفِعَ الْجَبَلُ فَوْقَهُمْ سَجَدُوا، وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَتْ سَجْدَةً رَضِيَهَا اللَّهُ، فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، أَيْ‏:‏ بِجِدٍّ ‏"‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏"‏، جَبَلٌ نـَزَعَهُ اللَّهُ مَنْ أَصْلِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ لِتَأْخُذُنَّ أَمْرِي، أَوْ لِأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ‏!‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ كَمَا تُنْتَقُ الزُّبْدَةُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ كَانُوا أَبَوَا التَّوْرَاةَ أَنْ يَقْبَلُوهَا أَوْ يُؤْمِنُوا بِهَا ‏"‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ لِتُؤْمِنُنَّ بِالتَّوْرَاةِ وَلِتَقْبَلُنَّهَا، أَوْ لِيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، أَتَقْبَلُونَهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانُ مَا أُحِلَّ لَكُمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَمَرَكُمْ وَمَا نَهَاكُمْ‏!‏ قَالُوا‏:‏ انْشُرْ عَلَيْنَا مَا فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَرَائِضُهَا يَسِيرَةً وَحُدُودُهَا خَفِيفَةً، قَبِلْنَاهَا‏!‏ قَالَ‏:‏ اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا‏!‏ قَالُوا‏:‏ لَا حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا، كَيْفَ حُدُودُهَا وَفَرَائِضُهَا‏!‏ فَرَاجَعُوا مُوسَى مِرَارًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَانْقَلَعَ فَارْتَفَعَ فِي السَّمَاءِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ رُؤُوسِهِمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ أَلَّا تَرَوْنَ مَا يَقُولُ رَبِّي‏؟‏ ‏"‏لَئِنْ لَمَّ تَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا لِأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، قَالَ‏:‏ لِمَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ سَاجِدًا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْجَبَلِ، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ يَهُودِيٌ يَسْجُدُ إِلَّا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ، يَقُولُونَ‏:‏ هَذِهِ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ عَنَّا بِهَا الْعُقُوبَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَلَمَّا نَشَرَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ كَتَبَهُ بِيَدِهِ، لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ الْيَوْمَ يَهُودِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تَقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ، وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏نَتَقْنَا‏"‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مَعْنَى ‏"‏نَتَقْنَا‏"‏، رَفَعْنَا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْعَجَاجِ‏:‏

يَنْتُقُ أَقْتَادَ الشَّلِيلِ نَتْقَا

وَقَالَ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَنْتِقِ‏"‏، يَرْفَعُهَا عَنْ ظَهْرِهِ، وَبِقَولِ الْآخَرَ‏:‏

وَنَتَقُوا أَحْلَامَنَا الأَثَاقِلَا ***

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْلٌ آخَرَ‏:‏ وَهُوَ أَنْ أَصْلَ ‏"‏النَّتْقِ‏"‏ و‏"‏النُّتُوقِ‏"‏، كُلُّ شَيْءٍ قَلْعَتَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَرَمَيْتَ بِهِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏نَتَقْتُ نَتْقًا‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلِهَذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ الْكَثِيرَةِ ‏[‏الْوَلَدِ‏]‏‏:‏ ‏"‏نَاتِقٌ‏"‏، لِأَنَّهَا تَرْمِي بِأَوْلَادِهَا رَمْيًا، وَاسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ النَّابِغَةِ‏:‏

لـَمْ يُحْـرَمُوا حُسْـنَ الْغِـذَاءِ وَأُمُّهـُمْ *** دَحـقَتْ عَلَيـكَ بَنـاتِقٍ مِذْكـَارِ

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ رَفَعْنَاهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ ‏"‏نَتَقَنِي السَّيْرُ‏"‏‏:‏ حَرَّكَنِي‏.‏ وَقَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ ‏"‏مَا نَتَقَ بِرِجْلِهِ لَا يَرْكُضُ‏"‏، و‏"‏النَّتْقُ‏"‏‏:‏ نَتَقَ الدَّابَّةُ صَاحِبَهَا حِينَ تَعْدُو بِهِ وَتُتْعِبُهُ حَتَّى يَرْبُوَ، فَذَلِكَ ‏"‏النَّتْقُ‏"‏ و‏"‏النُّتُوقُ‏"‏، وَ‏"‏نَتَقَتْنِي الدَّابَّةُ‏"‏، وَ‏"‏نَتَقَتِ الْمَرْأَةُ تَنْتُقُ نُتُوقًا‏"‏‏:‏ كَثُرَ وَلَدُهَا‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏نَتَقْنَا الْجَبَلَ‏}‏ ‏"‏، عَلَّقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ فَرَفَعْنَاهُ، نَنْتِقَهُ نَتْقًا، و‏"‏امْرَأَةٌ مِنْتَاقٌ‏"‏، كَثِيرَةُ الْوَلَدِ‏:‏ قَالَ‏:‏ وَسَمِعْتُ ‏"‏أَخَذَ الْجِرَابَ، فَنَتَقَ مَا فِيهِ‏"‏، إِذَا نَثَرَ مَا فِيهِ‏.‏